من مذكراتي
عندما كنت في عامي الأول بالمدرسة الإبتدائية تعلمت بعض من الحروف الابجدية والأرقام وغسيل ملابسي وطيها ووضعها تحت وسادتي عوضا عن المكواة ، شأني وشأن أي تلميذ بداخلية المدرسة حينها الملابس كانت محدودة فمعظمنا لا يملك سوى لبسة واحدة للمدرسة وأخرى للنوم أو اللعب في وقت الفراغ ، كنت أقضي بعض الوقت قبيل المغيب أحاكي كتابة باللون الأخضر على جدران مكتب ناظر المدرسة ، عرفت فيما بعد أن تلك الكتابة اسم لمدرستنا بعد أن أكملت الحروف وتمكنت من قراءة بعض الكلمات والجمل فالكتاب تلك ( مدرسة كتاب شكرا الابتدائية بنين أسست عام 1955م ) تلك العبارة ما زالت ماثلة في ذهني بشقوق جدرانها وتقشر أجزاء من حروفها ، وكذلك علم السودان المرسوم بجانبها، يقال أن الأستاذ آدم على جارا هو الذي قام بكتابتها بتلك الصورة الجميلة وربما كان ذلك بداية عشقي للخط الجميل... اتذكر الظل الذي كنت أجلس تحته وأمارس محكاتي للنص العتيق بل ورائحة المكان أيضا لم تبارح ذاكرتي ، وأيضا من الكلمات التي كانت بذاكرتي كصورة وقرأتها لاحقا بعد تعلم القراءة كلمة ( الشعب ) جزء من كلمات كثيرة لم أتمكن الآن من تذكرها .
كما تعلمت الكتابة تعلمت بعض المسميات والمصطلحات المرتبطة بالمدرسة - طابور ، حصة ، إجازة جرس ، سبورة ، درج ، كنبة ، الى آخره.
عندما اقتربنا من نهاية العام الدراسي سمعت بكلمة الامتحان وقد سبق أن سمعت بكلمات أخرى كالتسميع و الحفظ ولا مشكلة لي في ذلك أبدا ، أما امتحان وامتحانات فلم اسمع بها من قبل البتة ، بدأت أسأل من هم أقدم مني في المدرسة عن ماهية الامتحان ، وأول ما سألت سألت أحد تلاميذ الصف الرابع اسمه عادل عن ماهية الامتحان فاجابني بوصف الامتحان وصفا دقيقا مستغلا سذاجتي وخواء عقلي قائلا لي: ( اتعرف طاحونة العمدة ؟ قلت له نعم . قال :اتعرف السير الطويل الذي يدور عندما تعمل الطاحونة ؟ قلت له نعم أعرفه . قال فالامتحان هو أن تضع يدك بين السير والعجلة التي يدور عليها السير فإن صبرت ولم تبك ولم تصرخ فأنت بلا شك ناجح وتكون قد اجتزت الامتحان بجدارة ويتم نقلك للصف الثاني عزيزا مكرما وإلا ( بيتوك) أعدت الصف الأول.
بدأ جسمي يقشعر لهذا الامتحان وبدأ الخوف يدب في جسمي ، كان أحد اقربائي بالمدرسة يدرس بالصف الرابع اسمه محمد علي وهو بمثابة أخي الأكبر يدافع عني ويحفظ لي مصاريفي وثقتي به تامة ، نقلت له طريقة الامتحان كما وصفه لي زميله عادل ، وبدوره أكد لي صحة ما قاله عادل (امتحانات الطواحين ) .
بدأت في اتخاذ التدابير اللازمة للخروج من هذه الأزمة . فكرت في الهروب من المدرسة، وكما هو معتاد في فترتنا تلك)(تمام التلاميذ) أخذ الحضور والغياب عند ساعة متأخرة من العصر فيذهب جميع التلاميذ الى ميدان التمام ، فكانت فرصة مناسبة للهروب فجميع التلاميذ يجتمعون في ميدان التمام للجرد (حضور، غياب ) ، عندما خرج جميع التلاميذ من العنبر تأخرت قليلا حتى لا يراني أحد منهم عند هروبي... ومن ثم تسللت عبر سور المدرسة فهو عبارة عن حظيرة كبيرة من الشوك تحيط بالمدرسة له باب واحد كبير دائما ما يكون مفتوحا طوال اليوم، لكنني لم أفضله لأنه قد يكون مراقبا لذا اخترت منفذا آخر من السور تمكنت من الخروج عبره بصعوبة وانطلقت بسرعة البرق الى قريتنا التي تبعد سبع كيلومترات من المدرسة ، قطعت تلك المسافة وكنت خائفا لا من حلول الظلام فحسب بل كان خوفي من البعاتي أشد ففي منتصف الطريق توجد مقابر كنا نعتقد اعتقادا لا يخالطه شك أن هناك عدد من الذين دفنوا فيها عادوا للحياة مرة ثانية (بعاتة) وذهبوا إلى منازلهم وأخذوا ملابسهم وزادهم ثم إلى أماكن بعيدة بتوصية من ذويهم خوفا من الفضيحة فهم لا يظهرون إلى فى أوقات متأخرة من الليل ويروعون الناس وخصوصا الأطفال ، وقصص كهذه كثيرة كنا نصدقها ونحرص على عدم الوقوع في حبالها .. وصلت البيت بأمان وسط كل هذه المخاوف.. وبعد قليل من وصولي سألني والدي عن سبب مجيئي في ذلك الوقت واليوم لم يكن يوم عطلة نهاية الأسبوع أو نحو ذلك... حدثته بكل التفاصيل التي دفعتني للمجيء من الداخلية في هذا الوقت، فصمت ولم يعلق على ذلك بشيء وفي الصباح الباكر اصطحبني الى المدرسة وعند وصولنا أجلسوني على كرسي من كراسي المعلمين وكنت فخورا بالجلوس في كرسي من كراسي المعلمين رغم مخاوفي ، تحدث والدي الى معلمي بالصف الأول على انفراد وبعد قليل جيىء بعادل وسألوه بعض الأسئلة لم اهتم بتفاصيلها لكنه عوقب جلدا ، وانتهى الأمر فذهب والدي لشأنه وعادل لفصله وأنا بصحبة معلمي الى فصلي.
ابراهيم